حين سأل أمير سعودي عبد الناصر عن الأقباط الأحرار
طلال بن عبد العزيز ... رؤى فكرية وتطبيقات حياتية
نقلا عن جريدة البيان - 12 نوفمبر 2018
كتب: يوسف وهيب
وقد يندهش القارئ، أو من يستمع إلى حكاية الأمير طلال بن عبد العزيز، من تلك الشخية التي جسدت الإنسانية في أرفع مستوياتها، وأرقى تجلياتها، حيث أنه يكاد الأمير العربي الوحيد الذي يهتم بشئون قد لا يعاني منها في بلاده، على سبيل المثال اهتمامه بالسؤال عن الأقباط المصريين وعدم تمثيلهم في مجلس قيادةالثورة 1952، وهو مادار حوله سؤاله للرئيس جمال عبد الناصر، وهذا ما سنأتي إليه لاحقًا.
وفي 16 نوفمبر 2011 أعلن استقالته من هيئة البيعة، وأعلن إنه رفعها لأخيه الملك عبد الله، وتأتي استقالته بعد ثلاثة أسابيع من تعيين أخيه غير الشقيق الأمير نايف بمنصب ولي العهد، وبعد وفاة الأمير نايف وقيام الملك عبد الله بتعيين الأمير سلمان وليًا للعهد، وقال: إن هيئة البيعة لم تدع للاجتماع للتشاور حول هذا التعيين، وقال إن الملكيات العربية يجب أن تتغير إلى ملكيات دستورية لأن الممالك المطلقة لم تعد تواكب هذا العصر.
وبعد عودته إلى المملكة العربية السعودية، آثر الابتعاد عن السياسة، وظل يعمل في أمور تنموية وتعليمية حتى هذه اللحظة، وأسس منذ العام 1980 "برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية"، ومهمته دعم جهود التنمية البشرية المستدامة في دول العالم النامية، ومن خلال هذا البرنامج قام وبالتعاون مع شركاء دوليين بإنشاء عدد من المؤسسات في مقدمتها؛ المجلس العربي للطفولة والتنمية، ومركز المرأة العربية للتدريب والبحوث (كوتر)،والشبكة العربية للمنظمات الأهلية، وبنك الفقراء، وغيرها الكثير.
ومن المناصب التي تولاها؛ رئيس برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية، ورئيس المجلس العربي للطفولة والتنمية، وسبق له العمل في السلك الدبلوماسي، حيث عمل سفيرًا للمملكة العربية السعودية في فرنسا، وعضو مؤسس في اللجنة المستقلة للقضايا الإنسانية الدولية، وعضو رابطة معهدباستور في باريس، وعضو منتدى الفكر العربي، والمبعوث الخاص لليونسكو للمياه،والمبعوث الخاص لليونسيف.
لذا لم يكن غريبًا على الأمير أن يرفض أي تكريم ويرفض شهادات الدكتوراه الفخرية، ضاربًا المثال والقدوة، و الموقف المخالف لمعظم أمراء وحكام الخليج، وقادة دول العالم الثالث الذين تُمنح لهم شهادات فخرية كمقابل تبرعات يدفعونها، أو ثمنًا سياسيًا من جانب المؤسسات الأكاديمية على دعمهم المالي لها.
جانب آخر- ربما يغيب عن الكثيرين- لا لتقصير منهم، بل ربما لأن الرجل ليس من هواة البروباجندا الإعلامية أو السياسية، إنه منذ يفاعته، يهتم بالفكر الإنساني دون تصنيفات دينية أو جهوية او قبلية، وتجلى هذا من المشروعات والمؤسسات التي دشنها لخدمة الإنسانية، داخل المملكة وخارجها، وليس أدل منهذا الموقف الذي حدث بينه وبين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
في إحدى المقابلات التليفزيونية معه، قال الأمير طلال بن عبد العزيز إلتقيت عبد الناصر عام 1955، ثم توطدت العلاقة بعد عام 1957، والغريب أنه رفض ذكر أي معلومة عن الجهة التي بعثت به إلى عبد الناصر و رفض أيضًا الإفصاح عما دار في الفترة من 1957حتى 1964، قال كنت مبعوثا منهناك وحين سأله المذيع من الملك قال لا لا من هناك هناك أشياء لا تقال الآن، لأن العالم متحفز وله مقتضياته!
ويفجر الأمير طلال مفاجأة بقوله؛ حين سألت عبد الناصر في أول لقاء لي به، وكان عمري حوالي 23 عامًا: أليست هذه هي ثورة تمثل كل الشعب يا سيادة الرئيس؟ قال عبد الناصر: نعم إنها ثورة الشعب، وهل في ذلك شك؟! فأردف طلال سائلاً: ألا يوجد شخص قبطي واحد ضمن تنظيم الضباط الأحرار؟
رد جمال- رحمه الله- وهو يبتسم: والله سؤال وجيه يا طلال، بس ده ما فكرناش فيه لأننا فكرنا في الموضوع بالأساس كمصريين، وليسكمسلمين أو مسيحيين.
إلى هنا انتهت رواية الأمير طلال، حول هذه المواجهة الودية، غير أنها فريدة من نوعها، وربما يقول قائل؛ إن هذه الإجابة ماهي إلا محاولة للهروب الشيك من المأزق، ولكن هذا ما حدث، بينما هناك آراء تقول؛ أن مجلس قيادة الثورة، ومنذ اليوم الأول، ضم بين صفوفه ضابطاً مسيحياً برتبة يوزباشي اسمه "واصف لطفي حنين" ، هذا ما يؤكده السيد سامي شرف سكرتير الرئيس عبد الناصر للمعلومات؛ إذ قال في رسالة لإحدى الصحف "إن الصاغ صلاح سعدة - اللواء فيما بعد - كان قائداً ثانياً للكتيبة ١٣ كتيبة ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ ويقع منزله بشارع خلوصى فى منيل الروضة.. وفى مساء يوم ٢٢ يوليو وفى الاجتماع الذى عقد بمنزله لتلقى التلقين الأخير لتحرك الكتيبة ١٣والذى حضره البكباشى جمال عبدالناصر والصاغ عبدالحكيم عامر والصاغ صلاح نصر قائد الكتيبة فى ذلك الوقت حضر البكباشى زكريا محيى الدين فى الساعة السادسة وقد غادروا بعد ذلك فيما عدا الصاغ صلاح نصر والصاغ صلاح سعدة صاحب المنزل ثم حضرت بعد ذلك مجموعة الكتيبة لتلقى التعليمات النهائية، كان الحضور هم اليوزباشى عمر محمود على والملازمون سعيد حليم وفؤاد عبدالحى ونهاد منير ومصطفى أبوالقاسم ومحمد السيد عفيفى ومحمد على كامل وانضم لهم اليوزباشى جمال القاضى بأمر من البكباشى جمال عبدالناصر، ولما دخل اليوزباشى عمر محمود منزل الصاغ صلاح سعدة كان بصحبته الملازم أول واصف لطفى حنين، وكان أحد الضباط الذين يخدمون فى سرية اليوزباشى عمر!
وروى عمر أسباب انضمام هذا الضابط المسيحى، والتى تعتبر مثالاً للبطولة والوطنية الصادقة؛ فعندما استقل اليوزباشي عمر محمود الأتوبيس من ميدان المحطة - رمسيس حالياً- مع زميليه نهاد منير ومصطفى أبوالقاسم فى طريقهما لاجتماع الضباط الأحرار فى منيل الروضة، تصادف وجود زميلهم واصف حنين فى نفس الأتوبيس، ونظرا لما كان يتصف به هذا الضابط من رجولة ووطنية لذلك لم يخف عليه عمر محمود وجهتهم عندما بادره واصف بالسؤال عن ذلك، وأبلغه أنهم فى طريقهم لتلقى الأوامر الخاصة بقيام الحركة فى تلك الليلة، وفى شجاعة نادرة ودون أدنى تردد انضم واصف حنين إلى زملائه الأحرار، وتوجه معهم إلى منزل صلاح سعدة حيث كانت المفاجأة، وقد أسهم واصف حنين مع زملائه ضباط الكتيبة ١٣ فى الحركة ونفذ الواجب الذى أوكل إليه شخصياً فى تلك الليلة، وهو الاستيلاء بفصيلته على بوابة معسكر العباسية التى كانت تواجه كلية البوليس وقتئذ.. وبهذا الجزء من شهادة اللواء صلاح سعدة أردت أن أسجل دوراً وطنياً وجريئاً لضابط مصرى مسيحى اسمه "واصف لطفى حنين".
التوقيع: سامى شرف
- سكرتير الرئيس جمال عبدالناصر للمعلومات
- وزير شؤون رئاسة الجمهورية الأسبق
غير أن الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل له رؤية أخرى، رغم مناورته فيها، وتهوينه من الأمر، إلا أنه اعترف ضمنيًا أن سبب غياب الضباط الأقباط أو تغييبهم عن الحركة من الأساس، كان بسبب قرب الضباط من جماعة الإخوان، إذ يقول فى تفسير له ردًا على سؤال مماثل حول تغييب الأقباط عن مجلس قيادة الثورة " إن ما آلت إليه الأحوال قبل الثورة جعل من عدم وجود ضابط قبطى فى مجلس القيادة الجديد مسألة أكبر من حجمها. كما أنه بدا فى أول الثورة وكأن نظامها الجديد وثيق الصلة بالإخوان المسلمين. الذين حاولوا إعطاء الانطباع بأن لهم فى الثورة أكبر مما هو باد على السطح، واقتراب بعض قيادات الثورة فى مرحلة من مراحل حياتهم من جماعة الإخوان المسلمين مثل كمال الدين حسين وأنور السادات بل جمال عبدالناصر نفسه!
ومهما يكن من أمر فإن التاريخ سيحفظ لهذا الرجل " الأمير طلال بن عبد العزيز" جرأة السؤال الذي لم يكلف أحد من أبناء هذا الوطن سواءً من النخبة السياسية أوالمثقفين ( وأيًا كان انتماؤه الديني) أن يسأل عبد الناصر عن هذا الأمر أو يناقشه حوله فيذلك الوقت!
قد يكون لقب " الأمير" بمعناه السلطوي أو السياسي، ظالمًا لهذه الشخصية الاستثنائية التي تمثل نوعًا نادرًا من البشر، لكن بمعناه الإنساني هو أمير من نوع خاص، صنع إمارته بنفسه، بأفكاره الإنسانية وجهده وعرقه، ولم يتوقف الأمر عند حد الترف الكلامي، فيما يختص بالإنسان وتنميته، بل تجاوز ذلك إلى العمل، والعمل وحده هو الترجمة الحقيقية والفاعلة للكلام والشعارات.
والأمير طلال الذي عرف منذ الستينيات باسم الأمير الأحمر، ومرجع ذلك أنه أسس في عام 1958 مع أربعة من إخوته حركة الأمراء الأحرار، ونادت الحركة بإنشاء حكم دستوري برلماني، وبعد تأسيس الحركة غادر السعودية إلى مصر واستضافه الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر الذي كان يناهض الحكم الملكي المطلق، وقام الملك سعود بسحب الجواز الدبلوماسي منه. وظل مقيمًا في مصر حتى سمح له بالعودة في عهد الملك فيصل بشرط عدم تدخله في شئون الحكم.