من نحن

مؤتمر صنعاء الإقليمي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان

إنه لمن دواعي سروري أن أشارك اليوم في هذا المحفل المتميز لمناقشة قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تعد بحق قضية الساعة في العالمين العربي والإسلامي
11 ديسبمر 2020
كلمة
صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود
في مؤتمر صنعاء الإقليمي
حول الديمقراطية وحقوق الإنسان
ودور محكمة الجنايات الدولية

صنعاء
الأحد 11 يناير 2004

بسم الله الرحمن الرحيم

أصحاب المعالي والسعادة ,,

السيدات والسادة ,,

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ,,

إنه لمن دواعي سروري أن أشارك اليوم في هذا المحفل المتميز لمناقشة قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تعد بحق قضية الساعة في العالمين العربي والإسلامي . فالشكر واجب للحكومة اليمنية التي تقوم برعاية المؤتمر، وكذلك للإخوة في منظمة " لا سلام بدون عدالة " الذين حرصوا على دعوة نخبة ممتازة من الرسميين والمثقفين من العالم العربي ومن خارجه.

والحقيقة أنني لم أتردد في قبول الدعوة، لإيماني بأهمية الموضوع وحساسيته في ظل التطورات التي يشهدها العالم العربي في هذه الفترة الحرجة من تاريخه. فهذا المؤتمر يأتي في وقته، فالأنظار تتجه إلى العالمين العربي والإسلامي، والأسئلة تُثار عن إمكانات التطور نحو الديمقراطية في بلادهما. وكثيراً ما استوقفني من بينها سؤال طرح بشكل متكرر في محافل ووسائل إعلام غربية عن مدى انسجام نسق القيم الإسلامية مع متطلبات الديمقراطية. فقد كنت، وما أزال، أؤكد أنه لا تعارض بين الإسلام ومقومات النظام الديمقراطي . ويتفق معي كثيرون في ذلك. وأرجو أن يكون هذا المؤتمر مناسبة للحوار وتبادل الآراء والأفكار حول سبل تعزيز التطور نحو الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي في الفترة المقبلة.

السيدات والسادة :

- سأركز في كلمتي على بعض القضايا والمسائل وثيقة الصلة بإشكاليات التطور الديمقراطي في منطقتنا :

أولاً: إن الديمقراطية ليست مفهوماً غربياً وإنما قيمة إنسانية.
فالديمقراطية قد تبدو للوهلة الأولى مفهوماً غربياً بحكم نشأتها في أوربا في العصر الحديث. إلا أن هذا لا يجسد الحقيقة في كل جوانبها. فالكفاح من أجل ترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ليس لصيقاً بحضارة بعينها، وإنما يعد أحد المنجزات الحضارية التي ساهم فيها البشر جميعاً على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وانتماءاتهم الحضارية والثقافية. إنه كفاح خاضه الإنسان في أماكن وأزمنة مختلفة دفاعاً عن حقوقه السياسية وكرامته الإنسانية في مواجهة الطغاة والحكام المستبدين.

وقد شاءت ظروف تاريخية أن تجني أمم الغرب في أوروبا وأمريكا ثمن هذا النضال الإنساني قبل غيرها، وأن يتجسد ذلك في شكل حكومات تتبنى الديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان. ولكن لم يمض وقت طويل حتى بدأت الديمقراطية تتحقق في مناطق أخرى وتحرز انتصارات خارج النطاق الغربي.. وهل ننسى أن الهند تعد أكبر الديمقراطيات على ظهر البسيطة؟ وألا يدل مسار التطور السياسي في العالم على أن الديمقراطية عرفت طريقها إلى عدد متزايد من الدول عبر موجات كان أخرها الموجة التي اقترنت بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق ومعسكره الاشتراكي؟ والآن، ولأول مرة في التاريخ، أصبح عدد الدول الديمقراطية يفوق تلك التي لم تتمتع شعوبها بعد بالحرية.

ثانياً: إن العلاقة وثيقة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني.
فالديمقراطية في أبسط تعريفاتها تعني مشاركة الناس في اختيار حكامهم عبر انتخابات حرة، وحقهم في مراقبتهم ومحاسبتهم من خلال المجالس النيابية، وتغييرهم واستبدالهم بغيرهم إذا لزم الأمر.

ولكن الديمقراطية كعملية مستمرة ومتجددة لا تتوقف عند حدود الانتخابات والرقابة والمحاسبة، إذ ما قيمة الانتخابات إذا كانت حقوق الإنسان الأساسية منتهكة؟ وما معنى المشاركة إذا كان المجتمع لا يلعب دوراً أساسياً في بلورة قضاياه عبر منظماته المدنية.

إن الديمقراطية وحقوق الإنسان مفهومان مكملان لبعضهما البعض. إذ لا يتصور ازدهار أحدهما في غياب الآخر. فالمواطن الذي لا يعرف حقوقه القانونية والسياسية والإنسانية لا يمكن أن يشارك بفاعلية في العملية الديمقراطية.

وغني عن البيان أن حقوق الإنسان لا يمكن أن تُحترم وتُصان إلا في ظل حكم ديمقراطي يضع ضوابط على سلطات الدولة ويحاسب أجهزتها المختلفة إذا تجاوزت صلاحياتها التي يقررها القانون والدستور.

والدول الديمقراطية هي الأكثر احتفالاً بكرامة مواطنيها والأكثر حرصاً على حقوقهم، وهي تنطلق في ذلك من عقيدة راسخة وإيمان عميق بأن شعور المواطن بأن حقوقه مصانة وكرامته محفوظة يضاعف من انتمائه لبلده ومشاركته في العمل من أجل رفعتها وازدهارها.

ومن جانب آخر، نرى أن المجتمع المدني النشط يجدد شباب العملية الديمقراطية بوصفه قناة للمشاركة الطوعية من جانب المواطنين في ساحة العمل العام. وهو ما يدعم روح المبادرة، ويعمق قيمة التطوع والإحساس بالمسئولية تجاه المجتمع. وكلها قيم ترشَّد الممارسة الديمقراطية وتضمن سيرها في الاتجاه الصحيح.

ثالثاً: إن النضال لم يتوقف من أجل الديمقراطية في العالم العربي.
لا شك في أن مسيرة التحول الديمقراطي في العالم العربي تسير بمعدل أبطأ كثيراً مما يأمله كل من يريدون الخير والتقدم لشعوبه. ولكن هذا لا يعني بأي حال أن أبناء العالم العربي لا يريدون الديمقراطية أو لا يحفلون بها.

لابد أن نقرر هنا أن الصعاب والعقبات التي اعترضت مسيرة التحول الديمقراطي في العالم العربي منذ عهد اليقظة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين هي أكثر من أن تحصى أو تعد. وبعضها عقبات خارجة عن إرادة أبناء هذه الأمة، فالاستعمار الأجنبي لعب دوراً سلبياً في تعطيل المسيرة الديمقراطية. وفي نفس الوقت، لابد أن نعترف بأن عقبات داخلية ساهمت كذلك في وضع العصا في عجلة التطور الديمقراطي طوال النصف الثاني من القرن المنصرم. وبعضها – للأسف – يعود إلى قصر نظر النخب السياسية والثقافية، في حين يعود البعض الآخر إلى تحديات جسام وجدت الدول العربية نفسها مجبرة على مواجهتها مما قاد في آخر الأمر إلى تأجيل قضية الديمقراطية. وهذا خطأ تاريخي علينا جميعا أن نعترف به، فليس هناك مسوغ – أيا كان – يبرر تأجيل الديمقراطية لأنها تعد الوسيلة الأنجع لمواجهة التحديات.

ووسط هذا كله ، لابد أن نشير إلى أن النضال الديمقراطي لم يكن غائباً في العالم العربي. فقد حدث هذا النضال في مختلف البلاد العربية، بدرجات متفاوتة. وثمة رجال ونساء عرب حملوا شعلة الديمقراطية ودافعوا عن مبادئ حقوق الإنسان وتحملوا في سبيل ذلك ما تحملوا من عنت ومشقة ، ودفعوا الثمن عندما احتاج الأمر إلى تضحيات قدموها راضين لوطنهم وأمتهم .

وقد كان لقضية الديمقراطية دائماً أكبر نصيب في اهتماماتي، منذ أن شاركت في ساحة العمل العام . وقد كتبت قبل نحو أربعة عقود كتاباً ألخص فيه دعوتي إلى مزيد من الديمقراطية والحرية للناس بعنوان: "رسالة إلى مواطن"، وما زلت أرى أن الأفكار التي وردت في هذا الكتاب تنطوي على معاني ذات صلة بالتطورات الجارية الآن في العالم العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين.

السيدات والسادة :

يخطئ من يتصور أن الديمقراطية ليس لها أنصار في العالم العربي، ويخطئ من يظن أنها حلم بعيد . فالمسألة ليست أكثر من وقت تحتاج إليه عملية التطور الديمقراطي في بلادنا لتختمر وتفرز كل بلد تجربتها التي تلائم واقعها السياسي والاقتصادي والثقافي .

وهناك إشارات على إدراك متزايد في الفترة الراهنة لدى القيادات والنخب السياسية في دول عربية رئيسية لأهمية التحول الديمقراطي. وهناك خطوات تتخذها بعض الحكومات لتوسعة الهامش الديمقراطي شيئاً فشيئاً، وهي خطوات تستحق الإشادة والتقدير، وإن كان يؤخذ عليها بطء وتيرتها وعدم كفايتها. وعلى الرغم من هذا البطء – بل والتلكؤ في بعض الأحيان – إلا أن هذه الخطوات التدريجية تجاه الإصلاح السياسي وتبني قيم حقوق الإنسان والحكم الرشيد وإفساح المجال أمام المجتمع الأهلي، سوف تفضي في آخر الأمر إلى الديمقراطية إذا صدقت نوايا القيادات وحدث إجماع شعبي واسع على قضية الديمقراطية بوصفها التحدي الأكبر الذي تواجهه دولنا العربية في اللحظة الراهنة.

رابعاً : إن التحول التدريجي يضمن بناء ديمقراطية مستقرة.
والدعوة إلى الإسراع في التطور الديمقراطي لا تعني القفز على الواقع. فهذا التطور يرتبط بتوفر حد أدنى من ثقافة التسامح والحوار واحترام الرأي الآخر. ولذلك، فإن منهج الإصلاح التدريجي هو الكفيل بتهيئة الطريق أمام عملية تحول ديمقراطي آمنة وطبيعية تحفظ للمجتمعات سلامتها وتماسكها، ولا تقود إلى فوضى مدمرة. ولا يحسبن أحد أن الديمقراطية تمثل وصفة سحرية لعلاج كل المشاكل، فهناك أمثلة عدة على مجتمعات ساءت أحوالها وتعقدت مشاكلها بسبب فجائية التحول للديمقراطية. فما بالك بمجتمعاتنا العربية التي لم تختبر أغلب شعوبها الديمقراطية ولم تعتد على ممارستها.

ومن ناحية أخرى، لابد ألا يكون هذا المنهج التدريجي مبرراً للإبطاء المتعمد أو التكاسل فالبطء المبالغ فيه يصيب الشعوب بالإحباط ويجعلها تشكك في نوايا القيادات والنخب.

إن الإصلاح السياسي لابد وأن يتم بوتيرة معقولة تقنع الناس بحدية القائمين عليه. وهنا يكون من المفيد الإعلان عن جداول زمنية محددة لخطوات التطور الديمقراطي، فليس من المعقول أن تستمر هذه العملية بغير نهاية واضحة أو غاية معلومة.

وينبغي كذلك إتاحة القنوات أمام الناس للمشاركة في عملية التحول هذه. ولابد أن تعرف القيادات والنخب أن الناس لا يتمنون شيئاً أكثر من المشاركة في عملية تفتح لهم المجال أمام مزيد من الحرية والديمقراطية، وهم يتحرقون شوقاً إلى يوم يتمتعون فيه بالحريات والحقوق التي يتمتع بها مواطنو العالم المتقدم.

خامساً : إن التحول الديمقراطي يحتاج تحولاً في الثقافة والقيم.
فإذا اتفقنا على أن الديمقراطية عملية شاملة لا تقف عند حد إجراء الانتخابات وتغيير الحكومات، فلابد أن نقرر أن التحول الديمقراطي يحتاج إلى تحول أوسع يشمل الثقافة والقيم .

فالديمقراطية، في التحليل الأخير، تعتمد على سلوك البشر واتجاهاتهم والقيم التي يتبنونها. والديمقراطية تربية وثقافة وممارسة قبل أن تكون نظاماً سياسياً له قواعد إجرائية محددة.

ويخطئ من يتصور أن هناك ثقافات بعينها تنسجم مع الديمقراطية وأخرى تزدريها أو تناصبها العداء. ففي كل ثقافة قيم تلائم الديمقراطية وأخرى لا تشجع عليها. وثقافتنا العربية الإسلامية ليست استثناء من هذه القاعدة.

فليس صحيحاً أن الإسلام يعادي الديمقراطية ولا يعبأ بحقوق الإنسان. وكلنا نعرف مركزية مبدأ الشورى في الحضارة الإسلامية. وهناك إشارات واسعة في التراث الإسلامي إلى ضرورة مراقبة الحكام بل وتقويمهم إذا لزم الأمر.

إن المثقفين العرب يقع على عاتقهم اليوم تسليط الضوء على هذه القيم، واستلهامها في صياغة تجربة ديمقراطية معاصرة تمزج بين التراث وما فيه من إيجابيات – وهي كثيرة – وبين ما وصلت إليه التجارب الحديثة من خبرات وممارسات تجسدت في شكل نظم سياسية ومبادئ قانونية.

إننا أحوج ما نكون إلى بث قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في مناهجنا التعليمية وثقافتنا اليومية ووسائل إعلامنا المقروءة والمسموعة. فذلك هو السبيل الوحيد لتربية مواطن يعرف حقوقه ويتمسك بها ويدافع عنها. ويفهم أن مشاركته في شئون بلده ليست ترفاً وإنما واجب ومسئولية.

سادساً : المحكمة الجنائية الدولية ودورها في الدفاع عن حقوق الإنسان.
حسناً فعل منظمو هذا المؤتمر بعقد نقاش موسع حول المحكمة الجنائية الدولية التي تعد – بحق – أحد التطورات الهامة في عالم اليوم. فهذه المحكمة هي التجسيد الحي لمبدأ محاكمة الطغاة الذين كانوا يفرون بأفعالهم دون أن يحاسبهم أحد.

وهي من ناحية أخرى، تطور باتجاه التطبيق العملي لمبادئ القانون الدولي الإنساني بما يضمن معاقبة هؤلاء الذين يرتكبون جرائم الحرب والابادة والجرائم ضد الإنسانية. وهذا تطور غير مسبوق في تاريخ الإنسانية التي لم تختبر في أي فترة من تاريخها عدالة دولية عابرة للحدود ومتخطية لسيادات الدول. وهذا إنما يشير بجلاء إلى المكانة الرفيعة التي صارت تحتلها قيم حقوق الإنسان في الأجندة العالمية، حتى صارت مقدمة على قواعد الحصانة وأقاليم السيادة.

وربما يفيد مؤتمرنا هذا في تنبيه الحكومات العربية إلى أهمية الانضمام إلى الميثاق الأساسي للمحكمة ، الذي تم تبنيه في يوليو 1998 والذي صدقت عليه حتى الآن اثنان وتسعون دولة، ليس من بينها للأسف سوى دولتين عربيتين هما الأردن وجيبوتي.

إن عدم تمثيل الدول العربية في المحكمة الجنائية يعطي انطباعا سيئاً عن المنطقة العربية، إذ تبدو وكأنها لا تحفل بالقيم الإنسانية النبيلة التي تجسدها هذه المحكمة. وهو أمر يجدر بالحكومات العربية الالتفات له وتصحيحه في أقرب وقت.

السيدات والسادة :

أشكر لكم حسن الاستماع ، وأكرر شكري للحكومة اليمنية وللإخوة الذين قاموا على تنظيم هذا المؤتمر الذي أتمنى أن تسهم النقاشات والحوارات التي تدور في جلساته في ترشيد الجدل حول التطور الديمقراطي، فنحن نحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى الاستئناس بكل الآراء والاستماع إلى كل الأصوات.

وفق الله الجميع ,, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ,,