كلمة
صاحب السمو الملكي
الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود
في نقابة الصحفيين بجمهورية مصر العربية
مبادئ الديمقراطية في الإسلام
وعلاقتها بالواقع العربي المعاصر
السبت 1 نوفمبر 2003
القاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
السيدات والسادة :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،,
أحب في البداية أن أعبر عن سعادتي بأن أكون معكم في ليلة من ليالي هذا الشهر المبارك الذي أنزل فيه الفرقان، فارقاً بين الحق والباطل هادياً للناس ومخرجهم من الظلمات إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فكل عام وحضراتكم بخير، داعين الله تعالى أن يعود على الأمة الإسلامية في حاضر أفضل وحال أحسن. وكم يسعدني أن يكون لقاؤنا في نقابة الصحفيين، هذا الصرح الشامخ الذي نتوسم فيه دوماً أن يكون منبر إشعاع لأفكار الحرية وحاملاً لمشعل التقدم .
وأشكر الأخ الأستاذ محمد عبد القدوس إذ دعاني لأسعد بهذا الجمع الكريم في صالون إحسان عبد القدوس ذلك الكاتب العربي الذي وهب حياته مناضلاً عن مبادئ الحرية والديمقراطية في شجاعة وبسالة حظي بها احترام الجميع سواء اتفقوا أو اختلفوا معه في الرأي أياً كانت وجهات النظر في أعماله الأدبية. وهل يوجد عمل إنساني لم يختلف عليه الناس؟ والله نسأل أن يجزيه خير الجزاء عما قدم في هذا المضمار من قول صادق وكلم حر .
إن القضية التي أخترت الحديث فيها اليوم تعد واحدة من أهم القضايا التي تواجه أمتنا في الفترة الراهنة. ولا أبالغ إذا قلت أن قضية الديمقراطية تمثل التحدي الأساسي في طريق نهضتنا، والسؤال الجوهري الذي لابد أن نجيب عنه إذا أردنا لهذه الأمة أن تنهض من عثرتها وتلحق بركب الحضارة والمدنية. لاسيما وقد تتابعت علينا الاتهامات بأننا لا نملك فكراً يتبنى الديمقراطية، ولا ديناً يستوعبها كنظام سياسي .
وإن كان واقع الحال يدعو للرثاء، فإن إصرار البعض منا على الدفاع عن هذا الواقع البائس وتبريره أكثر إثارة للحزن والغم .
إن ما يؤسف له أن قطاعا عريضاً من نخبنا السياسية والثقافية ما زالت تنظر إلى الديمقراطية ، كنظام سياسي ، نظرة شك وريبة ، وما زال هناك من يربط بينها وبين الغرب مدعياً أن مبادئ الديمقراطية غريبة عن تراثنا وديننا ، وأنها لا تتفق والإسلام بل هي خروج عليه وتعد على شرائعه .
وليس خافياً أن من يتبنون هذا المنهاج المعوج ويروجون لهذا المنطق الملتوي إنما يفعلون ذلك دفاعاً عن واقع يكرسه استمرار الاستبداد الذي هو أصل كل ما تعانيه هذه الأمة من أمراض، وسبب جل ما حل بها من كوارث ونكبات .
لن أمل تكرار عبارة الشيخ محمد عبده رحمه الله ، بأن الإسلام نظيف والقرآن نظيف وإنما لوثه المسلمون بأعمالهم، ولن أمل تكرار أنه ليس في الإسلام ما يعادي الديمقراطية، بل على العكس لا أعرف ديناً كالإسلام في تبنيه لمبادئ الحرية ودفاعه عن الديمقراطية، وعدائه للطغاة الجبارين.
أليس جوهر الديمقراطية - بعيداً عن التعريف والمصطلحات الأكاديمية - أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم ، وألا يفرض عليهم حاكماً يكرهونه ، أو نظام يبغضونه؟
أليس جوهرها أن يكون للناس حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ ، وحق عزله وتغييره إذا انحرف وألا يساقون ، رغم أنوفهم ، إلى اتجاهات ومناهج اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها، فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التنكيل والتشريد بل والتقتيل ؟
إذا اتفقنا على أن هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقية، وأن البشرية قد وجدت لها صيغاً وأساليب عملية مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة واستقلال القضاء ..
أقول: إذا اتفقنا على كل هذا فكيف يخرج من بيننا من يقول بأن الديمقراطية، في جوهرها الذي ذكرناه، تنافي الإسلام؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يؤيد هذا الزعم؟
والله ما رأيت كتاباً مثل القرآن الكريم في ذمه للطغاة، بل وللشعوب التي تسير في ركاب الجبارين المفسدين في الأرض فتزين لهم بصمتها واستكانتها أن يتمادوا في الغي والاستكبار.
السيدات والسادة :
إن الدولة التي ينادي بها الإسلام لا تقوم على التسلط والاحتكار بل أساسها العدالة والعلم والحكمة ورضاء الناس بالحاكم. والإمام، أو الخليفة، أو رئيس الدولة، في حكم الإسلام، هو أحد الناس يصيب ويخطئ، ويحسن ويسئ، وعلى المسلمين أن يعينوه ما أصاب، وأن يقوموه إذا أخطأ، كما أعلن ذلك الخليفة الأول في أولى خطبه (لقد وليت عليكم ولست بخيركم فأعينوني ما أطعت الله فيكم، وقوموني إذا عصيته). فليس للإمام أو الخليفة عصمة ولا صفة مقدسة تجعله فوق المساءلة، وخارج مجال المحاكمة. وقد كان هناك من الخلفاء من وقف أمام القضاة، مثل خصمه، سواء بسواء. ويقول الخليفة الثاني عمر الفاروق: "يا أيها الناس من رأى منكم فيّ إعوجاجاً فليقومني"، ويرد عليه أحدهم فيقول: "والله يا ابن الخطاب لو رأينا فيك إعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا!" ويعقب الخليفة عمر بقوله: "الحمد لله الذي جعل في الأمة الإسلامية من يقوم إعوجاج عمر بحد السيف". ولا ننسى مقولة الخليفة عمر لوالي مصر عمرو ابن العاص التي أصبحت حكمة خالدة تقرع سمع الزمان: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
إن هذه الأمثلة كلها إنما أسوقها لكي أقرر حقيقة، لا يجادل فيها إلا من في نفوسهم مرض ، أو غرض ، وهي أن مبادئ الديمقراطية عميقة الجذور في التعاليم الإسلامية والتراث الإسلامي .
لقد انحرف المسلمون عن هذه المبادئ التي تضع على الحاكم قيوداً وتجعله مسؤولاً أمام الناس ، فتحولت الخلافة إلى حكم مطلق حيث لا مجال لمشاركة الناس في اختيار حكامهم ولا مساحة لمحاسبتهم وتقويمهم .
السيدات والسادة :
نحن مع الرأي القائل بأنه هناك فرق بين الاستشارة والشورى، فالاستشارة تعني أن يستشير الحاكم من يرى أهليته لذلك ، وهنا له أن يأخذ برأيه الاستشاري أو يرفضه، أما الشورى فهي مبدأ إسلامي أمر به الله تعالى في كتابه الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "وشاورهم في الأمر". وهي هنا تعني أخذ رأي مجموعة الصفوة من أهل العلم والرأي والاختصاص وما ينتهي إليه أهل الأغلبية يكون ملزماً ولا ينبغي الخروج عليه.
إننا نحتاج الآن أكثر من أي وقت أن نركز على الجوانب المضيئة في تراثنا لتكون ملهمة لنا في الانطلاق نحو المستقبل. والشورى، كما وضعها الإسلام، هي أقرب ما تكون إلى روح الديمقراطية المعاصرة التي تترجم هذه الفكرة الإسلامية الأصيلة في شكل مؤسسات وعمليات وقوانين وإجراءات.
ولا نرى بأساً في تطوير مبدأ الشورى ، وصبغه بصبغة معاصرة بحيث يترجم إلى واقع سياسي فعال ، ولا ضير هنا من الاستعانة بما توصل إليه الآخرون من نظم وإجراءات تقرر سيادة الأمة ، ومسؤولية الحاكم أمامها . ولا نبالغ إذا قلنا أن تطوير "الشورى" وتحويلها إلى إطار مؤسسي عملي ، هو فرض عين على فقهاء الأمة ومثقفيها وحكامها ومحكوميها.
السيدات والسادة :
لا مناص من الإقرار بأن الأمة العربية صارت تعرف بين أمم العالم بتفشي نظم الشمولية بأشكالها المختلفة ، ودرجاتها المتفاوتة ، ولا يحتاج المرء إلى مجهود كبير لكي يدرك أن الاستبداد السياسي قد قاد أمتنا إلى نكبات ومهالك جعلتها في آخر الأمر نهبا للطامعين ومغنما للمتربصين .
ولا يبدو أن النظم العربية قد وعت الدرس أو استفادت من التجربة. فمما يسترعي الانتباه في الفترة الأخيرة سعي هذه النظم – بدرجات متفاوتة – إلى فرض مزيد من القيود على الحريات العامة وهم في ذلك يتخذون من أجواء محاربة الإرهاب عذراً ويضربون المثل بالديمقراطيات الغربية التي صارت تفرض قيوداً غير مسبوقة على الحريات بعد أحداث 11 سبتمبر.
وتنسى نظمنا العربية ، أو تتناسى عن عمد أن الإصلاح السياسي لم يعد ترفاً وأن الأعذار التي نتذرع بها لتأجيله إلى ما شاء الله لم تعد تجدي في ظل ظرف تاريخي بالغ الخطورة فرض على أمتنا تحديات غير مسبوقة تهدد أمنها، بل ووجودها ذاته.
وعلى الرغم من إصلاحات تتخذها بعض النظم بين الحين والآخر، فإن ما تحقق أبعد ما يكون عن المأمول، فأفضل النظم العربية من حيث مستوى الحريات والديمقراطية تظل بعيدة عن مستوى طموحاتنا وتوقعاتنا، خصوصاً وأن دولاً أقل بكثير في المستوى الاقتصادي والتطور الاجتماعي قد سبقت المنطقة العربية في مجال التحول الديمقراطي، ومن بينها دول في إفريقيا جنوب الصحراء.
السيدات والسادة :
إن النظم الحاكمة تتغافل عن أن منهج الجرعات البطيئة الذي يروجون له يفرغ الإصلاح من محتواه ويجعله أشبه بعملية تجميل تحافظ على الوضع القائم دون تغيير يذكر. خصوصاً في ظل تنامي فجوة الثقة بين النظم والمواطنين، وهي فجوة تجعل الناس ترتاب في نيات الحكام وتشكك في عزمهم على إجراء إصلاح حقيقي. وهناك فرق كبير بين التدرج في الإصلاح وفق برنامج زمني محدد وجاد، والبطء الشديد المقصود به تجنب هذا الإصلاح .
أما المعارضة – على اختلاف حالها من قطر إلى قطر – فما زالت غير قادرة على بلورة بديل عملي وقابل للتطبيق، يجد صدى لدى الناس، وما زالت تعاني كذلك من أزمات ذاتية وانقسامات في صفوفها تعوقها عن أداء مهمتها، ولعل أبرز سمات هذا الضعف أنها لا تمارس الديمقراطية في تنظيماتها ولا تطبقها فيما تصدره من توصيات أو قرارات .
كما وأن المجتمع المدني – وهو من أهم الروافد الرئيسية للديمقراطية - يعاني أيضاً من ضعف في بنائه وأدائه بسبب القيود المفروضة على منظماته وهيئاته من ناحية ، وهشاشة مفهوم العمل التطوعي الذي يقوم عليه هذا المجتمع، من ناحية أخرى. ناهيكم عن مشاكل التمويل والمحاذير الرسمية التي تعوقه والأغلال التي تكبله . وقد آن أوان تفعيل هذا المجتمع المدني على اختلاف أشكاله ومستويات تطوره من بلد إلى آخر وتدعيم التنسيق والتعاون بين هيئاته في أكبر عدد من بلادنا العربية والإسلامية لتبادل الخبرات ونقل التجارب الناجحة حتى يشتد عوده ويقوى بنيانه ويعلو صوته ويسمع رأيه ، ولذلك أقول للمسؤولين في كل بلادنا أن المجتمع المدني يكمل دوركم، ويرفع عنكم أعباء متزايدة ، فأفسحوا له المجال لينطلق دون خوف لأنه ليس منافساً لكم بل مكملاً لدوركم .
إن الخطوة الأولى باتجاه الإصلاح تقتضي من الحكام إثبات صدق نواياهم بالفعل لا بالقول في السير على طريق الديمقراطية والحرية السياسية. كما تقتضي من المعارضة أن توحد صفوفها وتترفع عن الخلافات الصغيرة ، وأن تتبنى أجندة تضع الديمقراطية على رأس أولوياتها كمطلب شعبي يلتف حوله الجميع .
وبغير هذا، ستظل أمتنا أسيرة لنظم لا تحترم حقوق مواطنيها ولا توفر لهم أي طريق للمشاركة السياسية مما يقود في النهاية إلى مزيد من التخبط والغليان الداخلي، والانكشاف أمام الأخطار الخارجية.
وأخيرا ، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . صدق الله العظيم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ,,